لا يمكن أن نقف حدود التغير على أطراف التسلسل الرقمي، العشرية، أو غير العشرية، بل إن التغير مسألة نوعية محضة، حتى لو كان للكم ما تقوله في النوع. لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن نرد التغير إلى الأصفار التي يختتم بها رقم ما خاناته الواقعة إلى اليمين.
إن ما كان يحتشد، في هوامش السنين السابقة، سوف يحتل مكانه كمتنٍ للصفحات المقبلة، وما كان ينظر إليه كظواهر غريبة، أو غير مألوفة، أو غير شائعة، سوف يفرض نفسه لا كظواهر معروفة ومألوفة وشائعةٍ فقط، بل كأنماطٍ سيادية أيضاً.
وسوف يكون القديم نقطة البدء. وكما قال أحد الفلاسفة، إن الجديد يأتي دائماً متستراً بالقديم. سوف تبحث هذه النماذج الجديدة، عن أنسب النماذج القديمة، ولو على نطاق الشكل فقط، لتدخل مرتديةً زيها. وذلك توخياً لتأصيل نفسها، كأنماط طبيعية وحقيقية، بل ولتزعم وترى الأصالة لنفسها، ولتبعد أي اتهامٍ لها بكونها نتاج اختراعٍ أو ابتداعٍ ما.
وفوق ذلك لتمسح الأصالة، عن النماذج المغايرة، وتتهمها بأنها هي التي تشكل انحرافاً عن ذلك الأصل، وتطالبها بالخضوع لما قد صنفته باعتباره "الأصل الحقيقي"، وتطالب بحقها في أن ترث التركة الحضارية السابقة والراهنة والمقبلة.. المطلق يعود من جديد ليحتل الصدارة.
ولن يكون هذا الجديد واحداً. فما كان، لم يكن هامشاً موحداً، وإن كانت هناك أكثر من دعوة لتوحيده. بل سوف يكون أنماطاً متداخلةً، ومتحالفةً، ومتصارعةً. وكلٌ منها ينسب لنفسه الحقيقة المطلقة، وينسب لمن عداه الضلال المطلق.
ومن يبحث عن نهايةٍ سعيدة، لن يشهدها. سوف تكون، في هذا القرن الذي يعيش خفقاته الأولى، لحظات فرحٍ،. لكنها سوف تكون لحظات، ذلك أنّ الصراع التناحري هو سمة القرن الجديد، أولاً وآخراً.
وإذا ما أردنا أن نفهم، علينا أن نقرأ بعيني الآتي، لا بعيني الراهن. فما يبدو غير هام اليوم، سوف يكون هاماً جداً غداً، وما يعجز عن اجتذاب العقول حالياً، سوف يُعجز هذه العقول لاحقاً.
ولا ينسب هذا الاستقراء لنفسه الحياد، بل إنه متحيزٌ كل التحيز، فالحق انحيازٌ والخير انحيازٌ، والفضيلة انحيازٌ.. وأول انحياز للإنسان هو العقل. ولا يعتبر هذا النموذج الفكري نفسه خارج القرن، وخارج الدراسة، بل يقدّم نفسه باعتباره إحدى الظواهر، والمدارس المتصارعة.. ومن موقعه هذا، يقدم رؤيته.
إن وقوع ثلاثة أصفار إلى يمين رقم السنة الألفية، لا يمكن أن يؤدي إلى قدوم سكان الكواكب الأخرى إلى كوكبنا، وإن قال أولئك الناس ذلك. إن مثل هذه الظاهرة، لا يمكن استيعابها، إلا من خلال تراكم التطورات العلمية والتقنية، لدينا ولديهم، في القرنين السابقين، وما أفضت إليه من ارهاصاتٍ، مثل إطلاق الأقمار الصناعية، ومشاهدة الأطباق الطائرة.
ولا شك بأن من أبرز عناصر الألفية الثالثة، في قرنها الأول، وقد لا تجود بأكثر منه، هو عودة المفاهيم الدينية، لتحلّ الصدارة. وأبرز ما يمكن ملاحظته هو ظهور أديانٍ جديدةٍ، أو تفاسير جديدة لأديان قديمة. المسألة ليست المساجلة لصالح فريقٍ ضد آخر، بل تبياناً لمنحىٍ "جوهريٍ "، هو صراع الحياة ضد الموت كخط أساسي ينظم المفاهيم، في هذا القرن الجديد الذي يشكل حلقة بداية الألفية الثالثة، وقد يشكل حلقة ختامها أيضاً.
أما التساؤل عن: كيف سيكون الانتظام الحضاري لهذه الظواهر؟ ما هي الأطر النظامية لهذه التوجهات الحضارية؟ فهو أمر يخرج عن نطاق هذه الدراسة ولا شك بأنه يتطلب بحثاً من نوع آخر.