في نفس كل شابٍ أو فتاةٍ.. رجلٍ أو امرأةٍ.. حلمٌ.. وربّما أكثر.. أمنيةٌ.. أو مجموعةٌ من الأمنيات.. المال.. الشهرة.. التنقل بين عواصم العالم.. ارتداء أكثر الملابس أناقة.. سيارة.. شقة.. تكوين الذات.. بناء المستقبل. وهناك من يعيش أحلاماً أكثر بساطة.. الحياة المستقلة.. التخرج.. الزواج.. بل حتى العمل.. مجرّد العمل، أصبح في أحيانٍ كثيرةٍ، حلماً.. وهناك من يحلم لوطنه وأمته.. بل هناك من يحلم للعالم كله.. وهناك ما يمكن أن نسميه الحلم الجمعي.. أو حلم الأمة لنفسها..
الحلم هو المثال الذي نطمح إلى تشكيل واقعنا وفقه.. العلاقة ما بين الإنسان وواقعه علاقةٌ شائكةٌ.. قليلون جداً هم الذين يعيشون في توافقٍ كاملٍ مع واقعهم، بحيث لا نجد لديهم ما يشكون منه أو يطلبون تغييره.. قليلون جداً، هم الذين لا يحملون في صدورهم أملاً، يتمنون تحققه.. وربما يقول بعضنا أن مثل أولئك الناس غير موجودين، على الإطلاق..
هذا النزوع نحو طموحٍ معينٍ قد يبدو سوء تكيفٍ مع الواقع.. إلا أنه في حقيقة الأمر يشكل حالةٌ إيجابيةٌ جداً.. والفارق بين حالتي التكيف السلبية والإيجابية، هو أن الأولى فيهما لا يشكل التمني فيها سوى شكلاً، من أشكال التذمّر، والسخط.. وربّما العيش في أوهام.. حالةٍ من الإنشطار، ما بين واقعٍ معاشٍ، وما بين خيالٍ لا يمتّ إليه بصلة.. في حين أن الحالة الثانية، هي حالة الطموح إلى مثالٍ ما.. ومعنى هذا أن هناك واقعاً غير مرضٍ، وفي المقابل، هناك تحركٌ باتجاه تغيير، ما هو غير مرضٍ فيه.. إنه إبداع الفرد لواقعٍ، يتصف بما يراه من صفاتٍ مثاليةٍ..
إنّ الحلم أمرٌ ضروريٌ جداً في حياتنا.. بطبيعة الحال، فإن هناك من سوف يجادل بأنّ الحلم ما هو إلا وهمٌ رومانسيٌ، يضفي على الواقع جماليةً وهميةً.. إلا أن هذا البعض الذي يرفض الحلم، تحت شعار الواقعيّة، لا تخرج حياته عن كونها انسياقاً وراء تيارات الواقع المتقلّبة.. هذه التيارات تشكّل حياته دون أن يلعب دوره المصيريّ في توجيه الحركة المحيطة به نحو ما يخدم مصالحه، ومفاهيمه، ورؤيته لذاته..
إنّ وجود المثال في حياتنا، يوظّف الأداء اليوميّ للفرد، أو الجماعة، في نهج يخدم هدفاً مستقبلياً.. ومن المؤكّد أن هذا المستقبل ليس وهماً.. إنه الواقع الذي سوف نعيشه، في الأيام أو السنوات المقبلة.. إنّ وجود هذه الهدفية يكسب الحياة معنى.. يخرجها من دائرة الضياع والعبث.. يجعلها اختياراً لا مجرد ضرورةٍ.. يطرح الكفاح بديلاً للاغتراب.. هذه هي الصيغة السويّة لمفهوم التكيّف مع الواقع.. وما الانسحاب من الواقع، أو الانسياق وراءه، سوى حالتين مرضيتين.
والمثال من الأهمية في حياتنا، بحيث يمكننا إلى حد بعيد جداً، أن نقول: "قل لي ماذا تحلم، أقول لك من أنت".. إنه خلاصةٌ لمكنونات صدورنا.. خلاصةٌ لتجاربنا وثقافتنا.. إنه بالضبط جملةٌ واحدةٌ، تلخّص معنى الحياة، بالنسبة لنا.. موقفنا من هذا الوجود.. الحكم الذي نصدره على الواقع.. إنه يعتبر أصدق تعبير، عن فلسفتنا في هذه الحياة.. حتى لو كنّا ندّعي ليس لنا فيها فلسفة.. إنّه هدف الزمان المقبل، كما نحدده له نحن..
لكن هل تأتينا الأيام والسنوات، بما انطوت عليه صدورنا، من أمانٍ؟.. كثيرةٌ هي الأحلام.. وقليلةٌ تلك التي تتحقق منها.. أحياناً يكون الفرد هو المسؤول، عن عدم تحقق حلمه.. مثلاً هناك من يحلم بالتفوق، ولا يبذل أدنى مجهود.. وكأنه ينتظر أن يأتيه التقدم، من تلقاء ذاته.. أو أن يكدح في سبيله، غيره من الناس، ويقدموه له، على طبق من ذهب.. هناك من يبذر القليل، ويأمل أن يحصد الكثير.. هناك من يزرع الكراهية، ويأمل أن يجني المحبة.. هناك من لا يفكر بالعلاقة بين ما يفعل، وبين ما يأمل فيه.. من لا يأخذ بنظام الأشياء..
والكلّ يسأل: "أليس من حقي..؟" "لِمَ تحقق ذاك لغيري..؟" هذه الثنائية المرةّ، بين الحلم الجذّاب، وبين الواقع البليد، تفتك بالإنسان.. الكل يعيش بانتظار أن تأتيه الأيام، وربما السنوات بحلمه.. وبانتظار أن يأتي ذلك الحلم، يعيش الإنسان-وفي حقيقة الأمر، يجد نفسه مرغماً على أن يعيش-واقعاً لا يحبه.. حلمٌ يتمهل.. واقع يتكرّس.. والحلم يبدو سراباً.. ويلوح الضياع باعتباره البديل الحقيقي الوحيد..
ما يجب تعلّمه، هو ضرورة أن يكون الحلم واقعياً.. طالما أن ليس المطلوب أمنيةٌ، نمضي حياتنا في تمنيها، دون أن نحقّق شيئاً.. يجب أن نفكر في العلاقة، بين ما نعيش، وما نتمنى.. هل نسير فعلاً، في الطريق التي تؤدي إلى الهدف.. أم أننا فقط نسرح في خيالنا.. الواقع يطالبنا بالعقلانية والموضوعية في رسم أحلامنا.. وإلا أصبحت حياتنا ازدواجيةً جنونيةً. حياةً نفتقر إلى المنهجية.. ومستقبلاً متخيلاً لا أساس له على أرض الواقع.. إن الماضي هو المسؤول عن حاضرنا.. والحاضر هو الذي ينتج مستقبلنا.. يجب أن نحول الحلم إلى هدفٍ أو أهدافٍ تشكّل نتائجاً.. ثم نبحث عن الأسباب المؤدية إلى تلك النتائج.. ثم نؤصّل هذه الأسباب في حياتنا اليومية الراهنة.. ولا يكفي أن يكون الحلم موجوداً على الأرض، لكي نعتبره واقعياً.. فالأفراد يتفاوتون في نصيبهم، من ما على الأرض من إمكانيات.. يجب أن لا نبني أحلامنا على وقائع يعيشها الآخرون، ولا نعيشها نحن.. أن لا نسرق أحلام الآخرين.. أن تحقيق الحلم، ما هو إلا نتيجةٌ ضروريةٌ لاعتماد وسائل أو أسباب أدت إليه.. وقد لا تكون هذه الوسائل في متناول أيدينا.. هناك أشخاص كثيرون حققوا أحلاماً معينة.. لكننا قد لا نعرف ماذا فعلوا.. وغالباً ما لا يكون بمقدورنا تقليدهم.. لأننا نملك قدراتٍ، تختلف عن قدراتهم، ونعيش ظروفاً وملابسات، تختلف عن ما عاشوه.. يجب أن يكون حلمنا مرتبطاً بشخصياتنا وإمكانياتنا الخاصة.. وهذه الشخصيات، والإمكانيات، قابلةٌ للتطور، إذا ما أحسنا المحاولة.. بطبيعة الحال فإن الاستفادة من تجارب الآخرين.. نجاحاتهم وعثراتهم.. أمر لابد منه.. إلا أنه يختلف عن التقليد..
كثيراً ما يخطئ الفرد في اختيار مثاله.. كثيراً ما نجد أن حلمنا القديم لم يعد يلائمنا.. أحياناً تكون المسألة مسالة نضجٍ.. نتيجة لما نكتسبه عبر الزمن من خيراتٍ، ومعلوماتٍ، نتيجة ما عشناه من تجارب.. أحياناً أخرى، قد نجد الأمنية التي كنا نتمناها، قد تحققت.. فنتحرك نحو هدفٍ أبعد.. وأحياناً تكون المسألة عبارة عن تراجعٍ.. حيث نعجز عن الوفاء بما يتطلبه مثالنا من مشاقٍ، والتزاماتٍ.. فيجري التنازل عنه، نحو مثال آخر أكثر تناسباً مع استعداداتنا..
إذا ما كان الهدف واقعياً.. يعبّر عن شخصياتنا، واستعداداتنا، فلا بد من المثابرة.. الصبر كلمة استعملت لتعني الخنوع، والذل، والرضى بكل شيءٍ.. واستعملت أيضاً لتعني الكسل، والتراخي، وعدم القيام بأية فعاليةٍ.. لكنها تعني في الحقيقة شيئاً آخر.. فمن يطلب تغيير الواقع لا بد له من التحرّك.. وغالباً لا تأتي النتائج فوراً وبسهولةٍ.. هناك من لا يقبل أن يعطي الزمن حقه.. من يريد مطلبه مباشرة وإلا.. وهل نهدد الزمن؟.. غالباً ما ينتهي هؤلاء المستعجلون إلى التنازل عن الحلم، والقبول بأي حلّ في متناول اليد.. ما دام هذا الحل مباشراً وفورياً.. مثل هؤلاء لا يمكن اعتبارهم أصحاب مبدأ، وشخصيةٍ.. إنهم مستعدون للتخلي عن مطامحهم بسهولةٍ.. تحت شعار الروح العملية..
يجب أن نتحلى بالصبر.. وكثيراً ما نجد أنفسنا نعيش في فراغ.. خاصة إذا ما كانت المسافة بين الواقع والحلم طويلة.. يجب أن نقبل بحالة الفراغ.. طول المسافة يغري بحلٍ مؤقتٍ.. حتى لو كان جزئياً أو هامشياً.. ليخفف من وطأة الواقع، وقسوته، وبلادته.. وغالباً ما يكون الحل الجزئي بديلاً استراتيجياً.. غالباً ما نظنّه أو نخدع أنفسنا لتبريره، على اعتبار أنه ليس بديلاً للمثال.. على اعتبار أنه نقطة ارتكازٍ مرحليةٍ.. لكن قد يكون الأمر في حقيقته على العكس تماماً من ذلك.. المحطة، قد لا تكون نقطة توقف مؤقتةٍ.. والوقفة كثيراً ما تطول.. ما أكثر الحالات التي استحال فيها المؤقت إلى دائمٍ.. فالحل الجزئي قد يطرد الحل المثالي.. كثيراً ما يظهر المثال فجأة، ليجد الحل المؤقت يعترض الطريق.. يقول الفرنسيون: "لا شيء يدوم سوى المؤقت".
من الخطأ أن نحمل القول بالفراغ، على محمل أن الفراغ هدفٌ في ذاته.. بل لابد أن نختار صيغة تكيفٍ ملائمةٍ.. ليس من الضروري، حتى نكون مخلصين، أن نحرص على وجود فراغٍ مطلقٍ.. بل أن نعالج هذا الفراغ بحكمةٍ.. وفي محاولة ملء الفراغ لا تعتبر كل خطوةٍ خطراً..
لا بدّ من المرونة.. إذا ما كانت هذه المرونة، لا تعني التنازل عن الحلم.. أو اتخاذ موقفٍ يؤدي إلى استبعاده.. بل بالعكس.. ربما تأتي خطوة "الاتجاه الآخر" بالحلم.. أو تفتح له طريقاً جديداً.. مثلاً قد يعمد شخص يعاني من البطالة، إلى تنمية هوايةٍ أثيرةٍ عنده.. وغالباً ما تأتي هذه الهواية بعلاقاتٍ جديدةٍ، قد تقود إلى فرصة العمل.. حالات عديدة نمت فيها الهواية، لتصبح هي فرصة العمل المطلوب، والمحبّب.. قد يعيش المرء فراغاً معيناً في حياته.. وقد يكون هذا الفراغ ضرورةً.. لكن على هذا المرء أن ينفتح على الحياة، والناس.. ومن المؤكد أنه سوف يجد من خلالهما الحل الصحيح لمشكلته..
من الضروري أن نحارب اليأس.. لأنه العدو الأول، والخطر الحقيقي على مثلنا وأمانينا.. فمن يصاب باليأس نتيجة مرارة الواقع، لا يكون قادراً على التغلب على هذه المرارة.. الواقع يشهد تقلباتٍ مفاجئةٌ.. ويجب أن يكون المرء دائماً مستعداً لتحقق الحلم.. الكثير من ضرورات الحياة يأتي على شكل صدفٍ.. غالباً ما يفاجئنا حلمنا على حين غرة.. غالباً ما يصادفنا على قارعة الطريق.. فلنكن مستعدين متأهبين لاغتنام فرصتنا.. إحدى الفتيات خرجت للتسوق، فعادت مخطوبة.. كثيرة هي الأحلام التي تضيع.. كثيرة هي الأحلام التي تأتي، لتجد أصحابها منغمسين في عبث الأيام، بشكل لا يعودون معه قادرين على الإمساك بها.. قليلون جداً، هم الذين يتحملون ركود الأيام، وتمهل الحلم.. ويبقون في الوقت نفسه، جاهزين للعمل.