"ترى ماذا يخبئ لي المستقبل؟" ليس هناك من لا يسأل نفسه هذا السؤال.. ويصبح الأمر أكثر إلحاحاً عندما يقع المرء في مشكلة ما.. ويستحيل إلى حاجة ماسّة، إذا ما تطورت هذه المشكلة، لتأخذ شكل الأزمة، أو الكارثة، التي تهدد مجرى حياته.. في هذه الحالات يكون السؤال الطبيعي هو: "من يستطيع أن يرشدني إلى الكيفية، التي يتوجب علي أن أتصرف، أو أعالج، وضعي وفقها؟" لكننا نجد السؤال يأخذ طابعاً مغايراً: "هناك أقدارٌ تتحكم بحياتنا.. فكيف السبيل إليها.. من يستطيع أن يكشف لنا المستور؟" كثيراً، وخاصة في الحالات التي يواجه فيها الفرد خيارات مصيرية، يشعر المرء بعجزه عن تسيير حياته وفق ما يشتهي.. بل حتى بالعجز عن اتخاذ قرار بالمفاضلة بين خيارين...
وكما أن هناك من كرس حياته، لاستغلال ضعف الآخرين، فهناك دائماً من يترصد حالة الضعف هذه.. هناك من يزعم أن له للأقدار سبيل.. أنه يستطيع أن يكشف لك مصيرك أو مصير من تحب، أو ربما من تكره.. فقط أعطه كفك، أو فنجان قهوتك.. وسيجد خطوطاً تنبئ بظروف، وملابسات حياتك، والنهاية التي ستؤول إليها.. سوف يقول لك كم سنةً سوف تعيش، وكم مرّةً سوف تتزوج، وكم طفلاً سوف تنجب. سوف يجيب على معظم-إن لم يكن كل- أسئلتك: هل أنت مقبلٌ على سفرٍ؟ هل ستنجح في الامتحان الذي ينتظرك؟ هل سوف تتخرج؟ تتزوج؟ هل سيشفى من مرض من أقاربك؟ هل الفتاة التي تحبها تبادلك شعورك؟ ماذا سوف تكون نتيجة العلاقة؟
وتستحيل حالة الترصد هذه "علماً".. يصبح الغيب "علماً" يدرس في معاهد خاصة، وربما في كلياتٍ أو مؤسساتٍ جامعية.. واحد أشكال هذا "العلم" رصد حركة النجوم والكواكب، وتقصي أثرها على حياة الفرد والعائلة.. فقط قدم تاريخ ميلادك، ومن المفضل أن تذكر أية ساعةٍ، حتى تكون الدراسة أكثر دقةٌ.. وينفتح كل باب كان موصداً.. شخصيتك، مصيرك، مستقبلك، أقاربك، مدراؤك، زملاؤك، أصدقاؤك، وضعك العاطفي، المالي، الأسري، بل وحتى السياسي..
لا تستغرب عزيزي القارئ، فهناك من "يكشف" مستقبل أي دولة، أو معاهدة، ونجاحاتها المحلية، أو الدولية، من خلال معرفة تاريخ تأسيس هذه الدولة، أو توقيع هذه المعاهدة فيطبّق على هذا الكيان الاجتماعي "نظريته العلمية"، التي كرّس حياته لتطبيقها على حياة الأفراد...
لقد أصبحت مطالعة الصحف الحدث الأول، في قائمة نشاطاتنا اليومية. ويا ليتنا نتلهف على أخبار مجتمعنا، وموقعه في هذا العالم؟! لو كان الأمر كذلك، لكنا رواد التقدم وسادة التحضر.. بل صرنا نشتري الصحيفة بهدف قراءة زاويةٍ محددةٍ فيها.. ومن ثم قد نقرأ الصحيفة، أو نطرحها جانباً، بعد أن نكون قد "اكتشفنا" ماذا يخبئ لنا هذا اليوم، أو الأسبوع، أو الشهر، حسب موعد صدور الصحيفة، أو المجلة..
وإذا ما سألت المرء "كيف تسنى لكاتب، أو كاتبة، هذه الزاوية، أن يشق طريقه إلى ما تخبئه الأقدار للبشر؟". سوف تكون الإجابة إنها مجرد تسليةٍ.. مجرد فضولٍ.." ولكن عندما تنشأ أزمةٌ ما، أو يفكر باتخاذ قرارٍ هامٍ، تجده يسارع إلى شراء الصحيفة لقراءة "قدره"..
وإذا ما كانت الأزمة حادةّ، أو القرار هاماً، تجده يبحث عن مثل هذا "العالم" ليطرح عليه التفاصيل، ويسأله الحل. كثيرون هم الذين يسألون، وهم بصدد اتخاذ قرار بالزواج، فيما إذا كان تاريخ ولادة الشريك، ينبئ بزواج موفق، أم لا.. ولا نستغرب عزيزي القارئ، إذا ما علمت أن قرارات كثيرةٌ، يتم اتخاذها على ضوء حركة النجوم، وعلاقتها ببرج الفرد، الذي يتحدد بناء على تاريخ ولادته.. أعمال، مشاريع، صفقات، زيجات، رحلات، علاقات، دراسات.. كثير منها يتقرر بناء على حركة النجوم.. لا شك أن هناك نجوماً وكواكباً.. ولا شك أنها تتحرك... لكن ما أثر هذه الأجسام المتحركة على حياتنا؟ لا شك أيضاً إن هناك أقداراً معينةً، لكن كيف تتكشف هذه الأقدار من خلال هذه الحركة الفيزيائية؟
من المؤكد أن ثمة علاقاتٍ بين مواقع الكواكب، وحركتها، وأن ثمة آثارٌ لحركة الواحد منها على الآخر. وهناك مثال على ذلك يحب المنجمون ذكره، ألا وهو دور جاذبية القمر، في أحداث حركتي المد والجزر، في مياه بحار ومحيطات كوكب الأرض. أن العلاقة، والتجاذب، بين الكواكب مسألة لا يمكن إنكارها. وهناك علاقاتٌ يقينيةٌ أخرى، مثل وجود كواكب معينة، في مواقع خاصة، أثناء فتراتٍ محددةٍ من السنة. إذا ما تعمقنا في مثل هذه الحقائق، فإننا نكتشف زيف علمية التنجيم، لا صدقها، كما يريد هؤلاء المنجمون.
إن الحقائق العلمية التي يسوقونها، لتأكيد صدق أقوالهم، لا تنمي إلى "علم التنجيم" المزعوم، بل تنتمي إلى علم الفلك، وهو علم حقيقي أدى تطور دراساته، إلى رصد حركة الكثير من النجوم والكواكب، ومعرفة الكثير عن خصائصها وصفاتها، بحيث أصبح من الممكن الوصول إليها..
ترى ماذا وجد البشر الذين توسعوا في علوم الفلك؟ فليسامحني الشعراء عندما أقول: تبين أن كوكباً مثل القمر أرضٌ سار عليها الإنسان عام 1969، أرضٌ لها ارتفاعات، وانخفاضات، وتربة..
داسها الإنسان، وصورها، ووضع أجهزته فوقها لدراستها.. لم نعد نرجع إلى الإلهة ديانا كما فعل الرومان، أو أرتيمس كما فعل اليونانيون.. كذلك الشمس، تبين أنها كتلة نارية، وليست تابعة للإلهه الذي عبده الفراعنة قديماً...
هذه المفارقة تكشف الأرضية التي نشأ فوقها التنجيم، إلا وهي الدراسة العلمية-التجريبية للكواكب وحركتها، وإضفاء صفة الربوبية على هذه الكواكب، وتوقع أحداث أو كوارث تقع للبشر، نتيجة لحركتها بدءاً من الزلازل والفيضانات، وانتهاءً بالحروب... وأصبح تفادي مثل هذه الكوارث لا يتم إلا بمناشدة هذه، القوى والتماس رحمتها.. هذا هو المنشأ الوثني للتنجيم، باعتباره إضفاءً لصفات الربوبية على الكواكب، التي كشفتها الملاحظة الفلكية، واختراعاً لأساطير تسرد علاقات قصصية بين هذه القوى، كما لو كانت كائناتٍ حيةً، تحمل صفات وخصائص نفسية، واجتماعية، وعاطفية.. وتنسخ هذه الصفات، والخصائص، على الحياة الأرضية.
فكيف يفسر المنجمون اليوم ملابسات حياتنا؟ إحدى الطرق الرئيسية، هي تقسيم السنة إلى اثني عشر برجاً، رغم أن هناك من يجادل في عددها، أو كيفية استخلاصها.. فالبرج ما هو إلا عبارة عن مجموعة محددة من الكواكب، ودائماً يأتينا اكتشاف كوكبٍ، أو نجمٍ أو مجموعةٍ جديدة، فتتعالى الأصوات مطالبة باستحداث برج جديد. فبداية تقسيم الأسبوع كانت إلى خمسة أيام، تبعاً للكواكب الخمسة التي كانت معروفةً في ذلك الوقت، ثم اكتشف كوكبان آخران، فأصبح سبعة أيام، والآن اكتشفت ثلاثة جديدة.. كذلك تم اكتشاف مجموعة من النجوم، بين برج الميزان وبرج العقرب، فاخترعت منجمة بريطانية "برج الأفعى"، جاعلة منه البرج الثالث عشر، وحتى تتمكن من إيجاد مكان له، اختزلت أيام كل برج، بحيث أصبحت ألسنة تشمل ثلاثة عشر برجاً.
لكن، ما علاقة هذا كله بحياة الفرد؟ يربط المنجمون صفات الإنسان بتاريخ ولادته، فيعتبرونه ينتمي إلى البرج الذي كانت فيه أشعة الشمس يوم ولادته، وبدل أن ينسبوا ما سوف يكتسبه الفرد من صفات، في حياته المقلة إلى الوثن الراعي لذلك البرج، تراهم يتخذون هيئةٌ علميةٌ فيقولون، أنه في ذلك التاريخ كان للكوكب انتظامٌ خاصٌ، وتشكيل محددٌ للذبذبات الكهرومغناطيسية التي تصدرها، والتي يصلنا ما يصلنا منها، فتلعب الدور الرئيسي في تشكيل صفات من يولد في ذلك اليوم.
فيقسمون الأبراج إلى أربعة مجموعات، يسمونها: النارية، والترابية، والهوائية، والمائية. ويصفون الأولى منها بالحماس، والثانية بالواقعية، والثالثة بالتفكير، والرابعة بالعاطفية.
كان القدماء من الوثنيين يرون في حركة الطبيعة إنذاراً بحدث جللٍ، فكانوا يخشون الكسوف والخسوف وظهور المذنبات. أما اليوم فقد تبين أن ما كانوا يعتقدونه رباً ما هو إلا كتلة ماديةٌ تسبح في الفضاء..وإذا ما كان لهذه الحركة آثار ماديةٌ في الوسط الفضائي المحيط بها، فكيف نسح لأنفسنا بالقول "أن لها آثاراً اجتماعية"؟ "إنها تصنع أقدارنا"؟ وبدل أن ينشد الفرد مستقبله عبر كفاحه الشخصي-الاجتماعي، نجده يلتمسه في حركة كوكب من الكواكب. بالضبط يعتمد إنسان القرن الواحد والعشرين، سلوكياً، نفس الأسس التي كان يعتمدها وثنيو قرون الجهل والظلام. وعندما تحاصره بالنقاش العلمي، يتذرع بأنها ما هي إلا مجرد تسلية.. في حين أنه يضمر في داخل نفسه سؤالاً: "لم لا أجرب؟"
وغالباً ما تقوده التجربة إلى التصديق.. التصديق بالزيف.. فالمنجم ما اعتمد إلا صفاتٍ، ومفاهيم عامةً، تنطبق على معظم البشر-إن لم يكن كلهم. ولا بد وأن يأتي التعميم بالصيد السهل: هذا الأسبوع تصادفك مفاجأة غير متوقعة".. وأي منا لا تصادفه المفاجآت؟ أي منا لا تأتيه الأيام بغير ما يحتسب؟ نجاحٌ على صعيد العمل.. معظمنا سوف ينتظر هذا النجاح بتلهّفٍ، ولكن ماذا يحصل لمن يفقد عمله في هذه الفترة؟ سوف يرد عليه المنجم قائلاً: "نجاح في مجال آخر سوف يأتيك". وإذا ما اتجهت حركة كوكب الزهرة نحو موقع برج كالعذراء مثلاً، يتهلّل المنجمون، ويحملون البشار لمواليد هذا البرج، بأنهم سوف تتاح لهم فرصة النجاح العاطفي؟ كيف ولماذا؟ لأن كوكب الزهرة في نظرهم هو المسؤول عن حياتنا العاطفية. يعتبرون أنه بدخوله على برجٍ ما، يدخل العاطفة إلى حياة مواليد هذا البرج. لقد جرى إكساب الكواكب الخصائص البشرية، حيث تم افتراض أن كل كوكب مسؤول عن أحد جوانب القدر في حياة الناس: المال، العلم، العاطفة، السفر،... وبدخوله على البرج، يفرض قدره على مواليده.
ترى، هل بعد كل هذه الثورات العلمية، والتقنية، والفكرية، والاجتماعية، ندخل القرن الحادي والعشرين، بمعتقداتٍ وثنيةٍ، نبني وفقها حياتنا؟