في زمن ليس بعيداً، وفي دولةٍ ليست بعيدةٌ، شهد التاريخ مثالاً غربياً: اعتبر شرب القهوة ظاهرة غير عاديةٍ.. وبذلك شكّل ممارسةً مربية لدرجة أنّ تعاطيها، كان يتم في جلساتٍ سريةٍ، تعقد في البيوت-ويا ويل من ينكشف أمره.. واليوم يحمل أحد أصناف القهوة اسم ذلك البلد..
ابن رشد، قوبل بإحراق كتبه.. واليوم تحمل مدارسنا وكلياتنا، شوارعنا ومياديننا، اسمه اعتزازاً وافتخاراً في زمنه، اعتبره أبناء عصره عميلاً للهرطقة اليونانية، واليوم نكابر على جهل الغرب بحضارتنا قائلين: إنكم لم تقرأوا ابن رشد.. ولدينا كثيرٌ مثله!!!
هناك من اعتبر التاريخ الحضاري والحياتي للبشرية من نتاج الفكر، وجادل آخرون بأنه من نتاج المادة، وآخرون قالوا بالغرائز.. ويحتدم الصراع الآن حول علاقاتٍ مجرّدةٍ يدعونها (بنى).. أما نحن، فلا زلنا نكشف ونعلن كل يومٍ، أن التاريخ ما هو إلا عبارة عن مؤامراتٍ سريةٍ يحيكها الجواسيس..
كل جديد نرى فيه خطراً يهدّد حضارتنا، وثقافتنا، وقيمنا، وانتماءنا.. ونأخذ في البحث عن جاسوسٍ، ننسب إليه جريمة اختراق "السور الحديدي" الذي قبعنا وراءه، نسترق النظر إلى ما قد يبدو للعيان، في الجانب الآخر.. ونسترق السمع إلى ما قد يصلنا من أصوات.. ويشتد قلقنا ويتحول إلى صراخٍ، هدفه حماية هذا السور..
سورٌ كسور الصين.. حديديٌ حديدية ستالين.. ويل لمن يحاول عبوره.. سواء من جانبنا إليهم.. أولئك الأعداء.. أو من جانبهم إلينا.. نحن أصحاب الأصالة.. إذا كان العابر أسمر فهو عميل.. أما إذا كان أشقر فهو الدخيل.. والويل كل الويل، إذا كان ذلك الشخص امرأةٌ، فهي حصان طرواده، الذي ندخله بأيدينا إلى داخل قلعتنا الحصينة.
ولا يقل الأمر خطورةٌ، إذا ما ادخل عابر ما كتاباً، فالمرأة قد يقف شرها عند حدود الزوج، أما الكتاب فقد ينقل ما يجري هناك، إلى داخل القلعة الحصينة.. وننسى أن لدينا كتب ابن رشد، والفارابي، والكندي.. أولئك الذين نعتز بهم، ولا يقرأ كتبهم منا، إلا من أغواه شيطان الإغريق، لأننا ما زلنا في قرارة أنفسنا، نعتبرهم دخلاء، على أصالتنا.. بل ربما ظن البعض إن طائفةً، أو دولةً ما، تجنّد شبابنا من خلال كتبهم، لمؤامرة سريةٍ أعدّها أرسطو، ولم ينفذها بعد.
لن أدافع عن كل من يقف هناك.. ولن أدافع عن كل ما يجري هناك.. في الطرف الآخر.. خارج السور.. فهويّتهم معروفةٌ، وما ارتكبوه، وما يرتكبونه من جرائم بحق أنفسهم، وبحق غيرهم، في غنىً عن الكشف والتعريف.. لكن هل كل ما يدور هناك هو الجريمة؟! وهل الحضارة البشرية، ما كانت إلا سلسلة مؤامرات؟ وهل الجديد لا يأتي إلا من قبل الجواسيس المجندين للسهر على تلك المؤامرات وتنفيذها؟!
لا أخشى القول بأنني زرت المركز الثقافي الإسباني، والفرنسي، والألماني، رغم عدم معرفتي بلغاتهم، واشتركت في مكتبات المركز الثقافي السوفيتي، والبريطاني، والأمريكي، واستمر هذا الحال سنوات فماذا وجدت يا ترى؟!
وجدت حقائق مذهلةٌ، لا يمكن بأية حال اعتبارها استثنائية: كان أحد الكتب التي استعرتها من المركز الثقافي الأمريكي، من تأليف أستاذٍ في إحدى الجامعات الأمريكية، يقدم فيها تصوراً استراتيجياً نظرياً، من خلال استعراضه للوقائع التاريخية، يبين فيه أن السياسة التي انتهجتها أمريكا تجاه الشرق الأوسط، تتعارض مع مصالحها التاريخية الحقيقية.
وكان أحد الأفلام التي عرضها المجلس الثقافي البريطاني، عبارةً عن تصوير لحياة غاندي، وكفاحه ضد استعمار الإنجليز للهند ولا يتوانى الفيلم عن تبيان ما ارتكبته إنجلترا، في محاولاتها قمع هذه الرسالة الإنسانية، والحضارية.. بل ويصوّر أيضاً لقاءات غاندي مع الساسة الإنجليز، الذين كانوا يحاولون أن يثنوه عن عزمه، وإقناعه بالتراجع عن مطالبه، والتخلي عن دوره الكفاحي.. ويصوّر في المقابل ثباته على أداء رسالته التاريخية، حتى حققت أهدافها.
وكان من بين الكتب التي استعرتها من المركز السوفيتي، بعضٌ من كتب "دستويفسكي" الكاتب المسيحي الذي عاش في عصر القيصرية، والذي لم تمتد إليه أصابع الشيوعية.. كانت مكتبة المركز تحوي ترجمةٌ عربيةٌ قام بها المترجم العربي القدير "سامي الدوربي"، لمعظم ما كتبه هذا المؤلف، والذي لا زال موضع اعتزاز كل روسيٍ، حتى لو كان لا ينتمي إلى عقيدة الكاتب.
وقابلت في المركز الثقافي الفرنسي فنانةٌ تشكيليةٌ فرنسيةٌ، كانت تعرض لوحات رسمتها لمدينة البتراء الأردنية، تلك المدينة التاريخية التي نعتز بها.. لوحات تتجول بها عبر عواصم العالم، ناقلةٌ من خلالها صورةٌ، عن إحدى منجزاتنا الحضارية، التي استأثرت باهتمامها، ورأت أنها تستحق عناء السفر، للمشاهدة، والرسم، والعرض، والتجول بصورها.
ولن اعمد إلى القول بأنه ليس ثمة عمليات تجسسٍ، واختراق، لكن هل كان هيغل، صاحب الفلسفة التي كافحت في سبيل تبيان أن مجرى التاريخ ، ما هو إلا تحقق للفكر المطلق، أو بعبارةٍ أخرى (الألوهية)، هذا الفيلسوف الذي حارب التسلط، وألهم الحضارة البشرية، من خلال كتاباته عن "التناقض". هل كان هذا الرجل جاسوساً الا تستحق الفلسفة والأدب، والفقر والثقافة التي أبدعها الألمان، عناء دراسة اللغة الألمانية؟! أيمكن اعتبار تقدير هذه اللغة، وهذا الفكر، انحرافاً باتجاه النازية؟!
التاريخ يشهد أن القوة الكبرى التي هزمت ألمانيا النازية، هي روسيا التي كان نظام الحكم فيها يقول على التطبيق المحلي، لبعض نتاجات الفلسفة الألمانية.. فكانت هذه الفلسفة أخطر سلاحٍ، سدد في وجه النازية الألمانية الضربة القاتلة.. وكلام مماثل ممكن قوله عن "فولتير" و "ديدرو" و "مونتسيكيو".
لن اعمد إلى القول بأن أعداء الأمة لا يستغلون نقاط ضعفها، وعلى رأسها المرأة، لكن هل كانت الشابة الفرنسية، التي فطنت إلى موهبة طه حسين، وأخذها سحر الشرق، فشاركته حياته، ووقفت وراء عظمته، هل كانت جاسوسةً تهدف إلى اختراق وطنه؟!
مؤخراً تعرفت إلى أحد أساتذة الأدب العربي في الجامعات الصربية، وفوجئت بأنه عضو في جمعية الصداقة العربية. والتي لها فرعٌ هناك، وليس لها فروعاً هنا. ترى هل هناك مؤامرة تحاك ضد امرئ القيس، أو جبران خليل جبران.
إن الخوف هو رد فعل من يشعر بضعفه، فإلى متى نظل ضعافاً؟!إلى متى نظل نرفع تكاليف الزواج، ونغلق الأبواب في وجه الشباب، ونحذّر في الوقت نفسه، من الزوجة الأجنبية؟! إلى متى يظل ركن ابن رشد، والفارابي، والكندي، وابن سينا، ركناً مهملاً في مكتباتنا، ونحذّر في الوقت نفسه من الدراسة في الخارج؟! إلى متى نظل أسيري وساوس التجسس، والمؤامرة، والخوف من الغريب؟!
العولمة سمةٌ أساسيةٌ من سمات العصر الحديث، ولم يعد من الممكن لأية أمة أن تتقوقع على نفسها، وترفض المشاركة في التحرك على الساحة الدولية. حيث نجد كل أمة تحاول التعرّف على الأمم الأخرى، وتعرّف نفسها إليها، ونجد كل أمةٍ تعتز بما لديها من قيمٍ، وكتبٍ، ولغةٍ، ورجالٍ، ونساءٍ، ساهموا في صنع الحضارة البشرية،وتقدّم نفسها للعالم من خلالهم.. لِمَ نحتجّ على هذا النشاط، بدل أن ننخرط به، فنحذو حذوهم ولا نزرع قيمنا، وكتبنا، ولغتنا، ورجالنا، ونساءنا، في عواصمهم؟
لِمَ لا نصدّر أفكارنا، بدل الاعتراض على تصدير الأمم الأخرى لأفكارها؟ ومتى كان الفكر والحضارة، أمراً يخص أمةٌ دون أخرى؟
في كل المراكز الثقافية التي زرتها. كنت أجد ورشاتٍ، يدرّس كل فيها لغته.. ويعد أصحاب التفوق يمنح دراسية.. فهل يوجب علينا انتماؤنا للغتنا، وثقافتنا، أن نرفض أن نتعلم؟! بالعكس إنها أجيال المستقبل من مترجمين، ومتعلمين، ومعلمين، ومثقفين. علينا أن نميّز بين الصراع السياسي، والتفاعل الحضاري.. إنّ العهد المشرّف الذي نعتز به، هو العهد الذي كانت فيه أعمال المترجمين توزن بالذهب، دون أن تضع سياسة الفتوحات جهودهم موضع شكٍ أو ريبةٍ.
"الكمبيوتر" لم يخترعه جاسوس، وإن كان من الصحيح القول إن من بين من يستخدمونه جواسيس، فهل كل من يستخدمه جاسوساً؟! وهل من الصحيح القول: إنّه ما جرى اختراعه إلا لخدمة غايات التجسس؟ وحتى لو كان الأمر كذلك، فهذا لا يمنع أن نتعلمه نحن، وأن تستخدمه لخدمة أغراضنا، مصحّحين بذلك مساره!! والكلام نفسه يمكن أن يقال عن "الإنترنت".
وإذا كان الإنجليز قد نشروا لغتهم، بشكل أصبحت معه عالميةً، فليس الحفاظ على لغتنا، سوى أوهى ذريعةً، للانسحاب من المحافل الدولية، والعلاقات العالية.
أيضاً فالتعارف، والصداقة والزواج، عن طريق المراسلة، ليس من اختراع أحد أجهزة التجسس الدولية، بل هو سلوكٌ يوميٌ يعيشه الناس هناك داخل مجتمعاتهم، ويتعاملون من خلاله.. وانتشر هذا السلوك، وأصبح معروفاً عالمياً، وامتد إلى تقنيات النشر المتطورة. ولنفرض أن ما يزعمونه من أن الزواج عن طريق "الكمبيوتر"، ما هو إلا صيغةٌ عصريةٌ لنظام الخاطبة التقليدي، فما العيب في ذلك؟! وما العيب في دور الخاطبة؟! إنها مسألة تقديم الراغبين بالزواج لبعضهم البعض، فهل أصبحنا نعيب هذا السلوك؟؟ أكنا مخطئين عندما سبق واعتمدناه؟! لو لا حاجة المجتمع إلى هذا الدور، لما كان قد خرج إلى حيّز الوجود. لم نعد نقبل بالأنظمة الاجتماعية التي سبق واعتمدناها، لأنها تقليدية، وفي الوقت نفسه نرفض أنظمة العصر لأنها مستوردة، فماذا نعتمد إذا؟! هل كل قديم مرفوضٌ لأنه تقليديٌ؟! وهل كل جديدٍ مرفوضٌ لأنه مستوردٌ؟!
لا أحب أن أرى التوازن السكاني المحلي، بين الشباب والفتيات، يزداد اختلالاً.. ولا أحب أن أرى معدل الزيجات المحلية يتناقض.. وأنا متيقّنٌ من أن فرصتي في النجاح مع امرأةٍ شرقيةٍ، أكبر بكثيرٍ من فرصتي مع غريبةٍ، نظراً للخلفية الحضارية الاجتماعية والثقافية التي تجمع بيني وبينها، لكن إذا بقيت أبواب هذا الزواج موصدةً أمامي، فسوف اضطر إلى إدخال حصان طروادة، بالزواج من "جاسوسةٍ" شقراء!!