ماذا يريد الرجل من المرأة؟ وماذا تريد هي منه؟ وكيف يحاول كلٌ منهما الوصول إلى غرضه لدى الطرف الآخر؟ هذه أسئلةٌ يظن الكثيرون أن لا داعي لها، فبالنسبة لهم الإجابة واضحةٌ وسهلةٌ، بل وحتى بديهيةٌ.. لكن واقع الأمر هو على العكس تماماً، فما يظنه الكثيرون مسألةً بسيطةً، نجده –في جوهره- مسألةً في غاية التعقيد، وما قد يظنوه واضحاً، نجده في غاية الغموض هذا إذا ما ارتأينا تحليل الظواهر والأعراض، ومحاولة ردّها إلى أساسها، وتحليلها إلى العناصر المكونة.
إن أول إجابة تتبادر إلى الذهن هي الغريزة، ونجد مالا يحصى من النماذج والأمثلة، من حياة الكائنات الحية، البشرية، أو غير البشرية: الطير يتزاوج، بل وحتى النبات ينقسم إلى ذكر وأنثى، يتحرك بينهما الهواء.. لكن المسألة لا تكمن هنا، في الغريزة، بل في الكيفية التي يتعامل وفقها العقل، مع هذه الغريزة؟ الغريزة تشكل طاقة الدفع، وهذا واضحٌ، لكن ما هو غير واضحٍ أبداً، هي الكيفية التي يستجيب بها العقل لدافع الغريزة، وكيف يتحرّك بناءً على تأثيرها في تفاعلٍ اجتماعيٍ، يمكن إذا ما تفحصناه، أن نجد اختلافاً بين فردٍ وآخر، بحيث يمكننا أن نقول أن الغريزة، أوعزت بتحرّكٍ ما، لكن الفرد هو الذي يقرر طبيعة وكيفية، وزمان، ومكان، وكافة تفاصيل هذا التحرّك.. بحيث لا يمكن مع ذلك وصف السلوك بأنه أمرٌ غريزيٌ، بل بأنه نتاج وعيٍ فرديٍ اجتماعيٍ، يمكن اعتباره مسألة ذكاءٍ وثقافةٍ وروحٍ جماعيةٍ، حتى لو كان منطلقاً من الغريزة.
ولو أمعنا النظر في سلوك الأفراد، فإننا نكتشف تشابهاً، ينتهي بنا إلى التوصّل، إلى نموذجٍ سلوكيٍ عامٍ يحكم العلاقة بين الجنسين. فهل هذا النمط نتاج للغريزة غير الواعية، أم هو نتاج اجتماعيٌ مكتسبٌ ومتوارثٌ اجتماعياً. إن الغريزة هي التي تدفع باتجاه التحرّك، لكن طابع هذا التحرك هو مسألةٌ اجتماعيةٌ من الدرجة الأولى.
وإذا ما بحثنا في طابع هذا النموذج السلوكي الذي يحكم العلاقة، فإننا نجد نموذجاً أو نمطاً سلوكياً يعتمده الرجل، وآخر تعتمده المرأة. والفارق لا يمكن رده إلى مجرد التكوين الفطري المختلف بينهما. إن هذا التكوين يضع الرجل في مقدمة العلاقة، لكن يخطئ من يظن أن موقع المرأة فيه هو العربة الخلفية، وأن العلاقة بينهما علاقة متبوعٍ بتابعٍ. إن المبالغة والتطرف في تقييم القوة الاجتماعية للرجلُ أدّت إلى وجهتي نظر متضادتين: الأولى ترى في الرجل سيداً لا يُحاسب، وفي المرأة عبداً لا حق له. ومقابل هذا التطرف، وكرد فعل له، نشأ تطرفٌ آخر، يرى في المرأة رجلاً من طرازٍ مختلف، له كل ما للرجل من حقوق، وعليه كل ما عليه من واجبات.
إلا أن هذين التوجيهين –رغم تضادهما- لم يغيّرا من طبيعة النموذج السلوكي الذي يحكم العلاقة، فقد بقي الرجل متفوقاً وطليقاً، وبقيت المرأة تشعر أنها مغلوبةٌ على أمرها، بقي الرجل يتصرف دون شعور بالقيد، أو المسؤولية، أو الواجب.. وبذلك بقي شعوره بالالتزام ضعيفاً أو منعدماً: لا خطر يواجهه، لا تبعات يخشاها، لا ضرر ينبغي تجنبه، لا ثمرة يتوخّاها.. وبقيت المرأة تتصرف بشكل معاكسٍ، يسيطر عليه الشعور بالقيد، أو المسؤولية، أو الواجب، ويحكمه الشعور بالالتزام: هنالك أخطارٌ محدقةٌ، وتبعاتٌ تخشى، وإضرارٌ ينبغي تجنبها، وثمارٌ تستحقها التضحية في سبيلها.
ونتيجة ذلك، أخذ الرجل في علاقته بالمرأة، يتصرّف كطفلٍ كبيرٍ.. طفلٍ مدللٍ له الحق بكل مطالبه.. وما على العالم حوله إلا أن يلبي له طلباته.. ولكنه ليس ذلك الطفل الصغير، الذي تعوزه الوسائل، والإمكانيات، فيحقق من خلال ضعفه توازناً مع أطماعه، بل أنه كبيرٌ، وواعٍ، ويعرف كيف تؤكل الكتف، ولديه كل الإمكانيات التي تساعده على ذلك.
وفي المقابل نجد المرأة تعالج ضعفها، بالحيلة، والمكر، والدهاء.. على دماغها أن يعالج قصور إمكانياتها.. على ذكائها أن يحقق لها التفوق الذي تطمع به.. فهل تترك العضلات الجسدية والمالية التي يتميز بها الرجل تحكم عليها بالعبودية؟؟ وكانت إجابتها على مدى التاريخ "لا، فالوحش يمكن ترويضه بالصبر، والتحايل، والمراوغة".
الرجل لا يحسب حساباً لشيءٍ، والمرأة لديها كل الحسابات.. الرجل يقول للمرأة كل ما يريد، بل وحتى كل ما لا يريد.. أما المرأة فتتعلم كيف تجعل الرجل يقول ما هي تريد.. الرجل "بطلٌ" يتباهي بصولاته وجولاته.. وفي المقابل المرأة "انسحابية" ولو شكلياً.. الرجل متلهفٌ ومتدفقٌ، والمرأة باردةٌ وسلبيةٌ.. الرجل يطلب، والمرأة تمنع، أو تتمنّع.. والكذب سلاحٌ مشتركٌ يشهره كلٌ في وجه الآخر.
يخطئ من يظن أن الانقسام سمةٌ من سمات التخلف، ولا يوجد إلا في دول العالم الثالث فقط لا شك أن دول العالم المتقدم، شهدت تغيراً كبيراً في هذا المجال، إلا أن المعادلة بنمطها السلوكي، ما زالت تجثم على صدر العالم كله، مهما اختلف نصيب رقعةٍ أو أخرى، من مستوى التحضر.
ويخطئ أيضاً من يظن، بأن الثقافة رغم ما أدخلته من تغيرات على سلوك كل من الرجل والمرأة، قد استطاعت أن تخرجهما من هذا النموذج السلوكي البدائي. فما يزال الرجل والمرأة مثقفين حتى تتحرك بينهما العاطفة، فتجدهما قد انقلبا في تعاملهما، مع بعضهما البعض، إلى شخصين في غاية العاميّة. إنه قانون السوق، الذي لا علاقة له بثقافةٍ أو ذكاءٍ، كلٍ من المشتري والبائع: هكذا يتم الشراء والبيع.. لن تجد من يتعامل معك وفق قانونك الخاص.. عليك فقط أن تسلك وفق النموذج المرسوم مسبقاً، والترتيبات المعتمدة المعدّة سلفاً، وحتى لو افترض الطرف المقابل، أن نموذجك أفضل، فلن يرى في ذلك سوى سلاحٍ جديدٍ تخترعه، لدخول المعركة القديمة، فيأخذ في البحث عن الكيفية التي يمكنه فيها محاربتك، بما يبدو سلاحاً فتاكاً.
الإشكال يكمن أصلاً في الطمع: طمع الرجل في المرأة، وطمع المرأة في احتلال موقع الرجل. ولن يزول هذا الأشكال إلا إذا قرر الإنسان أن يحتكم إلى ما يميزه عن عالم الحيوان، ألا وهو العقل، الذي يردّ للإنسان إنسانيته التي ضيّعها، فيخرجه من ملكوت الضرورة، ليدخل به ملكوت الحرية. لابد وأن تلعب العملية المعرفيّة، التي تعاظمت في القرن الأخير، دورها في تغيير معادلة سلوك الفرد –الجنس، من معادلة تنهج شرع الغاب، إلى معادلة تنهج شرع العقل.. من صراع القوة الذي تحرّكه همجيّة الطمع، إلى تضامن العقل الذي يحركه حلم الإنسانية.