مؤتمر بكين

    ينقسم الموقف تجاه مؤتمر بكين، ما بين مؤيّدٍ متحمسٍ يرى فيه خلاصاً للمرأة من مشكلاتها، وما بين معارض متشددٍ، يرى فيه فساداً وانحلالاً لها. فما هي الرؤية الصحيحة لمثل هذا المؤتمر؟

    إن وثيقة المؤتمر قد قررت في البند (43) أن "تمكين المرأة، وتحقيق المساواة بينها وبين الرجل، هما شرطان أساسيان لتحقيق الأمن السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، والبيئي، لدى جميع الشعوب". وفي هذا حقيقةٌ جوهريةٌ، فالصحيح أنه لا يمكن بحث خلاص المرأة، بمعزلٍ عن خلاص الرجل. فالرجل نفسه يتعرض للفساد، وسوء الأوضاع، وليس من الممكن النهوض بأوضاع المرأة، بمعزلٍ عن النهوض بأوضاع الرجل. فالمسألة، أو المشكلة، أو الأزمة، لا يمكن تصويرها وتلخيصها، على اعتبار أن هناك رجلاً تقابله امرأةٌ، وأن الأول يضطهد الثانية كما يوحي البند (119).

    لقد سيطر الفهم الجنسي "صراع الجنسين"، على كثيرٍ من الأذهان بالغرب، وحل مفهوم الصراع الطبقي، الذي سبق وأن أطلقه ماركس، وثبت فشله لقد أصبح المجتمع في نظر كثيرين ينقسم إلى جنسين متصارعين، وخلاص أحدهما يعتمد على انتصاره على الآخر.

    هذا ما فعله ماركس ولينين على صعيدٍ آخر، هو الصعيد الاقتصادي، حيث قسّم المجتمع إلى مستخدمٍ (بكسر الدال)، ومستخدَم (بفتح الدال)، الأول: الرأسمالية والثاني: البروليتاريا، واصطدم هذان المفكران بنزوع وميل الفقراء إلى توسيع مشاريعهم، لتنمو ويصبحوا هم بدورهم أصحاب أعمال.

    لقد أصبح الناس يحتاجون إلى شيطانٍ ليرجمونه، وهناك من اختزن أن يرجمن الرجل، والنظام الذكري، ناسين أن المجتمع هو كلٌ لا يتجزأ، وأن المرأة قد خلقت لتعيش في أسرةٍ، فيها عددٌ من الذكور همُ الأب، والزوج، والأخ، والابن.. فأصبح الرجل هو العدو، وهو الذي يمارس العنف والتمييز، فهل يراد للمرأة أن تعيش في مدنٍ نسويةٍ، تحكمها أنظمةٌ نسويةٌ، وإذا ما كانت الضرورة تفرض المجتمع الواحد، فهل يمكن معالجة الفساد الذي يتعرض له طرفٌ، دون معالجة الفساد الذي يتعرض له المجتمع ككل؟

    وفي المقابل، نجد من يعتبر مناصرة حرية المرأة، والحفاظ على كرامتها، وحقوقها، وتطوير دورها، فساداً وانحلالاً، يريد الغرب تسويقه في عالمنا الثالث، متجاهلاً أن أحد الأهداف الاستراتيجية، المنصوص عليها في الوثيقة، تدعو إلى تحسين إمكانية حصول المرأة على التدريب المهني، والعلم، والتكنولوجيا، والتعليم المتواصل، وأن البند (84) يوصي باتخاذ تدابير إيجابيةٍ، تفتح للمرأة مزيداً من فرص الدخول والمشاركة، في المجالات التقنية والعلمية، وصوغ سياسات وبرامج تشجيع المرأة على المشاركة في كل برامج التمهّن (الاشتغال بالمهن)، واشتراك النساء في القرارات الاقتصادية خصوصاً، عن طريق المنظمات النسائية العاملة على مستوى القواعد الشعبية، ومن خلال مساهمتها في التسويق، والأعمال التجارية، والعلم، والتكنولوجيا.

    فهل هذا يتنافى مع الحديث النبوي الشريف، الذي ينص على أن "النساء شقائق الرجال"، والآية الكريمة التي تقول بسم الله الرحمن الرحيم ﭐﱡﭐ ﲁ ﲂ ﲃ  ﲄ ﲅﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ  ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ  ﲒﲓ ﲔ ﲕ ﲖﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ  ﱠ التوبة: ٧١ ؟ وهل يتنافى هذا مع مفاهيم، وأسس، التكافل، والتنمية الاجتماعية، التي حرص عليها الإسلام أشد الحرص؟ أم أن المطلوب هو ترديد هذه المفاهيم كشعاراتٍ، لا علاقة لها بسلوكنا في الحياة اليومية؟

    لقد شهدت الحركة النسوية إساءات للرجل، والمرأة، بل حتى الأبناء أيضاً.. فهناك المطالبة بإباحة الإجهاض، في كافة الحالات وليس في حالات الضرورة الصحية فقط) وهناك الدعوة إلى عدم ربط الجنس بالأسرة والزواج، وهناك المطالبة بحق أبناء الجنس الواحد، بتشكيل أسرةٍ، وتبني الأطفال. ولا شك أن مثل هذه المطالبات، تشكّل تطرفاً واعتداء على التشكيل الاجتماعي، بما فيه المرأة، ولكن هذا التطرف يجب أن لا يجعلنا ننسحب إلى تطرف مضادٍ، يبعدنا عن نصرة قضية المرأة العادلة. وقد تنبه الفاتيكان إلى أهمية مثل هذا الدور، فقد رأي أهمية أن يتدخل لتعزيز دور الأسرة، فاقترح إضافة نصوص، يشير أحدهما إلى أهمية المرأة في الأسرة، التي تشكل الخلية الأساسية للمجتمع بند (30)، والثاني يؤكد الدور المحوري، الذي يؤديه الدين في حياة ملايين النساء (31)، وهناك إشارة واضحة في نص آخر، إلى أن صياغة الاستراتيجيات والسياسات مسؤولية كل بلدٍ، مع الاحترام الكامل لمختلف القيم، الدينية، والأخلاقية، والتقاليد (9). هذه النصوص جرى تقدمها وهي تقدم مثالاً إيجابياً على مناصرة قضية المرأة، من خلال ربطها بالتكوين الأسري، والفهم الديني.

    لطالما كان البشر يفضلون الإجابة بنعم أو لا، وطالما كانوا يحشدون الحشود وراء أحدهما، ودفعوا دماءهم، وأبنائهم، وحقوقهم، التي من أجلها تحركوا، ثمناً لشعارٍ متطرفٍ.

    وقد لخص الإسلام الموقف الحقيقي بـ "الوسط" و"الاعتدال".وهذا لا يعني الوسطية أو القول بنصف الحق، بل الاعتدال في تعريف مفهوم الحق، وعدم المبالغة والتطرف، وإلا كانت المبالغة في حد ذاتها اعتداءً، يجرّ سلسلةً من الاعتداءات، والاعتداءات المضادة، وهي أفضل وسيلة لإضاعة الحقوق، حيث يضيّعها صاحبها، تحت شعار العمل من أجلها.

    ولو كانت المرأة تعيش أوضاع خيرٍ، وكرامةٍ، ورفاهٍ، لما أعطت أذناً صاغيةً للحلول الخاطئة، ولو كانت هذه الحلول صحيحةً، لشهدنا في تطبيقها الذي تتفاوت درجته، من بلد إلى آخر من بلدان الغرب، خلاصاً.

    وبدل الانقسام إلى أحد المعسكرين: معسكر قضية المرأة، ومعسكر أعداء هذه القضية، يجدر بالطرفين البحث عن الحل الحقيقي، لمشاكل المجتمع ككل، وعدم تناسي أو إهمال البعد النسوي فيه. المطلوب هو المشاركة الإيجابية، التي تستهدف تقديم ما بحوزتنا من مفاهيم ونظم، إلى ذلك الكائن الذي يحتاجها، ونحتاج نحن اتباعه لها، بعيداً عن الدور التقليدي الذي اعتدنا أن نمارسه في التقوقع على الذات، ورفض كل من لا يعتمد ما بحوزتنا من مفاهيم  نخفيها نحن عنه بدل أن نقدّمها له، ونسعى لرفد طموحه نحو الخلاص، بالكنوز الإسلامية التي نتغنّى على العالم بها، وتدنيه في الوقت ذاته على افتقاره إليها.


     عودة للفهرس                                                                                                                                                                    قراءة الكتاب كاملاً

    تابعوني على الفيسبوك