شهدت العصور الحديثة ظهور أفكارٍ جديدةٍ تعارض معارضةً كلية ما كان سائداً من مسلماتٍ، وربما كانت العلوم الطبيعية هي أول من فتح ذلك الباب، الذي بقي مقفلاً لقرون وقرون، فخرج العقل البشري ليتنفس الهواء الطلق، وينعم بضوء الشمس، بعد أن كان حبيس قيودٍ ومسلماتٍ لا تقبل الجدل، أو النقاش.
منذ أن أصبحت الأرض تدور حول الشمس-في وعي البشر، أصبحت كل الحقائق والمسلمات، أو ما كان يعتبر كذلك، يدور، وأصبح كل شيء موضع تساؤلٍ وشكٍ وريبةٍ. لم يعد الفرد يقبل بفكرةٍ، أو مفهومٍ ما، على أنه بديهيةٌ بل، أضحت كل بديهيةٍ، بحاجة إلى تمحيصٍ وإثباتٍ حتى يتم اعتناقها والمناداة بها.
ثورة الشك هذه كانت إيجابيةً وبناءةً بالتأكيد، حيث أنها أخرجت العالم من إحوال، وجهلٍ، وتخلّفٍ، سيطرت على مدى قرون عديدةٍ، وأخرجت إلى النور قوىً كانت فاعلة في الظلام، وكان الإنسان يتصرف، على اعتبار أنها غير موجودةٍ طالما أنه لا يدركها، ويكشفها. كشفت عن القوانين التي تحكم وجود الإنسان، وكيانه، ووضعت هذه القوانين ضمن مجال سيطرة الإنسان، وفعله، وتدخّله.
لكن هذا ليس كل شيءٍ، فالمسألة كانت أكبر من أي تلخيصٍ، وشهدت تعايش الهدم والبناء في فعالية معولٍ واحدٍ، فنور العقل الذي عمّ وبدّد ظلام مسلمات القرون الوسطى، اعتمد على قواه الذاتية ولم يوجه نظره إلا نحو ما يمكن أن يشكل أساساً يقينياً لا يمكن أن يختلف عليه اثنان، فكان أن اعتمد البرهان المادي والتجربة.
صحيح أن هذا المنهج هو منهج العلوم الطبيعية، والتي لا تقر بحقيقةٍ دون أن يمكن إثباتها في المختبر المغلق أو المفتوح، لكن العلوم الإنسانية أيضاً، أخذت تحاول الاستفادة، من منهج العلوم الطبيعية، لتطبّقه على دراستها للفرد والمجتمع، فكانت محاولاتٍ رائدةً، إلا أنها لم ولن تستطيع التعامل مع الظاهرة الإنسانية، استناداً إلى التجربة والمختبر وحدهما. هنالك أبعادٌ أساسيةٌ لا يطالها هذا المدخل، والجميع حتى دعاة المنهج العلمي ينطلقون من هذا الفراغ، محاولين سدّه بافتراضاتٍ تدّعي العلمية ولا تبلغها.
نتيجة ذلك الشك، وتلك الاكتشافات العظيمة، وذلك الفراغ في الميدان الإنساني، سيطر مفهوم النسبية على مناطق الوجود والسلوك البشري. لم تعد هنالك حقائق عامةٌ أو كليةٌ، يمكن التوصل إليها بالتحليل العقلي، ولم يعد هنالك ما يمكن أن يتفق عليه الجميع، فأصبح كل شيءٍ، موضع رأيٍ، لا موضع يقينٍ حقيقيٍ. بل الحقيقة نفسها لم يعد لها كيانٌ موضوعيٌ مستقلٌ، عن إدراك الإنسان لها، فأصبحت الحقيقة ما يعتبره المرء حقيقةً وليس لها صفة العمومية، وأصبح من غير المقبول أن نقول أن هذا صحيح، وذاك خطأ، بل أصبح مثل هذا القول يفتقر إلى الشرعية. الشرعية الاجتماعية تقول بأن هذا صحيح بالنسبة لفردٍ معين، وقد يكون خطأ بالنسبة إلى آخر. الحقيقة أصبحت لا وجود لها، واحتل مكانها الرأي، ولبس ثوبها معلناً ذاته. باعتباره الحقيقة، التي يتوصل إليها فرد من الأفراد.
صحيح أن لكل فردٍ رأياً وقد يتفق مع غيره، وقد يختلف، لكن يبقى هنالك وجودٌ للحقيقة العامة، مستقلٌ عن رأي الأفراد، ويبقى الرأي محاولة للتوصل إلى تلك الحقيقة، لا يحق لها أن تحل محل الحقيقة ذاتها. ليست الحقيقة نسبيةً، وليس لكل فرد حقيقته، وليس المختبر هو الحكم الوحيد، فيما يتعلق بالظواهر الإنسانية التي لا يمكن إخضاعها للتجارب العلمية، بهدف التيقن من أحكامنا بشأنها.
في نفس الوقت، الذي ثار فيه العقل على المسلمات، فقد قواه التحليلية أمام التجربة. لقد وجد نفسه عاجزاً أمام مسألة الوجود فاحتكم إلى المشاهد.. ألا وهو المادة والتجربة. في نفس الوقت الذي أعلن فيه العقل سيادته على الكون، ركع أمام جبروت المادة، ولم يثق بقواه التحليلية كطريقٍ للوصول إلى الحقيقة. وعندما لم تأته المادة بالإجابة، وبقيت الطبيعة صامتةً، ورأى أنه لا يمكن اتفاق البشر على رأيٍ واحدٍ خرجت كلمة الحقيقة الموضوعية من قاموسه، وأصبحت مسألة نسبية تختلف من فردٍ إلى آخر، وبدل أن يعتبر أن هناك آراء، أصبح يعتبر أن هناك حقائق، وأصبح كل فردٍ يعيش ما يحلو له من حقيقةٍ، ولا يحق لأحد أن يقول له أنت مخطئٌ، فالصواب هو ما تراه صواباً، وليس هناك ما يمكن أن يعلو على التجربة، حتى ظهرت مدارس تنادي، بأنه لا يحق لك نفي مفهومٍ، أو فكرةٍ، قبل أن تجربها.
لكن كما كانت الأرض تدور حول الشمس، رغم ادعاء كل الناس أو معظمهم، في فترةٍ ما، بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض، كذلك تبقى الحقيقة العامة موجودةٌ، حتى لو قال الإنسان بغيابها. وما لا يمكن للإنسان التوصّل إليه بالتجربة، يمكن له أن يتوصل إليه بالتحليل العقلي. نعم التحليل العقلي، هو ما يفتقر إليه دعاة العقل، حين احتكموا للتجربة، واختلاف التحليلات العقلية، يعني اختلاف الآراء، لا اختلاف الحقائق.