يسيطر على الناس وهم الاعتقاد، بأن الفكر والدين، العقل والإيمان، أمران مختلفان، بل ومتعارضان، ولا إمكانية للتعايش بينهما، فإما أن تنقاد انقياداً لا واعٍ، وتصبح من أنصار الدين-حسب ظنهم، وإما أن تفكر، وتشك، وتتساءل، وتحاول أن تتعقل، فتصبح-حسب ظنهم أيضاً من المعسكر الآخر المناوئ للدين، فنجد الكثيرين من أنصار الدين يناصرونه على اعتبا أنه محض اتباع لا مكان للعقل فيه، ونجد معظم من يعارضونه لأنهم يظنون أنه محض اتباع يفرض على عقولهم حالة من الجمود والانغلاق لا فكاك منها.
إن الدين لم ينكر دور العقل في يوم من الأيام، وإذا كان بعض من أنصار الدين انكروا العقل فليس من المقبول أن نرجع في فهمنا وتقديرنا لحكم الدين إليهم بدل الرجوع إلى كتاب الله سبحانه وتعالى ونستمع إلى قوله الحكيم بأنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وبأن في آياته تذكرة وعبرة لأولي الألباب. لقد وصف الله سبحانه وتعالى الكفار بأن لهم قلوباً لا يعقلون بها ومن الواضح أن المقصود بكلمة القلب باطن الإنسان الذي وظيفته التعقل وهوماً نسميه بلغة العصر الدماغ الذي وظيفته أن يفكر.
ووصف المؤمنين بأنهم يستمعون للقول فيتبعون أحسنه، وظن البعض بأن المقصود بالقول هنا القرآن الكريم، لكن مثل هذا الظن مخطئ فلا يجوز أن يستمع لكلام الله بهدف اتباع أحسنه حيث أن كل كلامه حسن يجب اتباعه. لكن المقصود بالقول هو الحوار أو الجدل العقلي أو التيارات الفكرية أو المواقف الحياتية ميزة المؤمن هو أنه يصغي وبكلمات أخرى يطلع على وجهات النظر المختلفة فيفكر بها ليرى أحقيقة كل مها ويختار التوجه المحق. المؤمن أذن يتبع عن وعي وإدراك وتبصر وتمحيص لمختلف وجهات النظر. ترى هل نتبع هذا الحكم الرباني في حياتنا وفي أسلوب انتهاجنا للمواقف والتوجيهات التي نختارها؟
والعقل أيضاً لا ينكر الدين إلا إذا كان هناك خلل في عملية التعقل أو في فهم الدين، فالعقل يطلب الحق والصالح العام والأدلّة، ويطلب المعرفة واليقين ويبحث عن الاتجاه الصحيح، وليس بمقدوره وحده أ، يجيب على ما لديه من تطلعات وليس سوى خالقه الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد أدرى بحاجاته ومصالحه وقادر على أن يهديه. من أخلص استحق بإخلاصه الهداية أما من سعى في سبيل أطماعه فلا هداية له وهذا هو معنى أن الله يهدي من يشاء، وليس أفراداً دون آخرين لشكلهم أو لما لهم أو لأي سبب عدا الحق الذي شكل محور الرسالة الربانية.
والعقل إذا ما تجرد عن أطماعه قادرٌ على استيعاب الرسالة الربانية حيث أن الله أرسل للإنسان ما يستطيع هذا الإنسان أن يستوعبه، ولم يكلفه بما لا طاقة له به.
ولنا في مثال إبراهيم عليه السلام وحيرته وشكه وبحثه عن الربوبية خير مثال كلنا يعرف تنقل عقل إبراهيم من الشمس إلى القمر ليجد في كل منهما النقص والبعد عن صفات الربوبية ثم انتهى إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الأقدر على الوصول إلى عبده، وليس العبد بالقادر على الوصول بفكره إلى ربه إن لم يقم ربه بهدايته، وأن هذا يحدد دور العقل وحاجته الماسة إلى هداية ربه، ولا يتضمن انتقاصاً للإنسان الذي يبحث ويحاول أن يتعقل ويتحرى الحقيقة، فكان أن اتخذ الله إبراهيم خليلاً.
يجب أن لا نقع في تفكيرنا أسرى للتطرف والمغالاة بحيث نقبل الفصل بين العقل وبين الدين، بين الفكر وبين الإيمان، وكثيراً ما نجد من يبرر هذا الفصل تحت ذريعة الحفاظ على أحدهما من شوائب الآخر فنرى نصير الدين يخشى أن يحرفه الفكر أو يخرجه عن دينه ونرى نصير العقل يخشى أن يحول الدين بينه وبين تعقله وسعيه في سبيل الحقيقة.
إن الله سبحانه وتعالى عندما يوجه كلامه إلى الإنسان فإنه يخاطب فيه عقله، وحسن تفكيره، وإخلاصه في تحري الحقيقة وطلب الحق لو تأملنا كلام الله سبحانه وتعالى لوجدناه مخاطبة لهذا العقل وهداية له وهداية الله للعقل لا تعنى أن العقل عاجز وأن المطلوب منه التوقف عن العمل، بل الله يريد لهذا العقل أن يعمل وهدايته له توجيهه لعمله وفعالياته لا منعاً لها فكما أن الرزق الرباني ثمرة للعمل والسعي، فإن الهداية ثمرة للفكر وأعمال العقل.
وإذا ما فهم الدين من خلال هذا المنظور لا يعود هناك مبرر لنصير الفكر في أن يخشى من الدين فالدين يأمره أن يفكر ويبحث ويطلع ويستمع ويحكم عقله ليصل قرارة نفسه إلى أن الحياة من غير إيمان ديني عبث ولا معقول وهو يعرف أكثر من غيره حاجته إلى رب يهديه وينير له طريقه، والله سبحانه وتعالى كلّف من وصلته رسالته بمن لم تصله الرسالة ترى هل قدمنا مثلاً سلبياً يشجعهم على المضي بعيداً عن الدين؟
عندما يقول أنصار الفكر أن الدين والفكر لا يجتمعان، ترى هل نحن نموذج هذا الفراق؟ وعندما نقول أن الإسلام هو دين العقل، فهل نشكل نموذجاً لهذا العقل؟ هذه أسئلة لا بد لنا منها إن أردنا وجه الله سبحانه وتعالى وإن حرصنا على نيل رضاه، فالدنيا دار سعي، والفكر أول خطوات السعي، لأن العمل بدون فكرٍ يصبح كالحرث في البحر.