الأساس أولاً

    إن الأساس الذي يستند إليه أكثر أصحاب الأديان، يتفق مع الأساس الذي يستند إليه أصحاب التوجّهات المادية، وكذلك العلمانية. فهم جميعاً ينظرون إلى حياة الإنسان باعتبارها واحدةً، ولا خلاف بين فردٍ وآخر، إلا في الانتماء المذهبيّ، أو ما قد يسمونه الأخلاقيّ، ويلخصون ذلك في الابتعاد عن بعض "المحرّمات".

    ينتج عن ذلك أنّ سلوك الإنسان في تسيير شؤون حياته أمرٌ واحدٌ ومشتركٌ، يتفق عليه الجميع، ويبقى لكل فرد بعد ذلك خصوصيته المذهبية. ومن هذا الأساس نشأ "الفهم النظامي"، بمعنى معالجة شؤون الحياة كمجموعٍ بشريٍ، على النطاق القوميّ، أو العالميّ من خلال "نظامٍ".

    وفي الردّ على أصحاب الأنظمة "الوطنية"، أو "الليبرالية"، أو "الاشتراكية"، خرج البعض بفكرة النظام "الإسلامي"، كمعالجةٍ نظاميةٍ تستند إلى الانحياز الإسلامي. ومثل هذا الفهم لا يرمي إلى ما هو أبعد من صياغة التحريمات، في تشريعاتٍ قانونيةٍ وضعيةٍ، وإلباسها رداءً سماوياً. فالأساس في المعالجة الدينية للحياة البشرية، هي معتقد الفرد: ما الحيز الذي يقدمه كل فردٍ لله عز وجل، في حياته اليومية؟ وعلى الأساس الاعتقادي يتم إنشاء القوانين النظامية، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، التعامل مع الدين باعتباره نظاماً مجرداً.

    أما القول بأن الاعتقاد موجودٌ، ولا يبقى سوى تأطيره تأطيراً نظامياً، فهو قولٌ يجهل كل الجهل حقيقة الاعتقاد، ذلك أن التوارث وحده، عنصرٌ لا يمكن أن يكون كافياً، لتشكيل هويةٍ اعتقاديةٍ، ولنا في قول الخالق سبحانه وتعالى " ﭐﱡﭐ ﱽ ﱾ ﱿﲀ ﲁ ﲂ ﲃ  ﱠ الحجرات: ١٤ "، كل عبرةٍ لا يمكن أن نعتبر أي وضعٍ نظامي، حتى لو رفع شعاراتٍ إسلامية، مجتمعاً إسلامياً، إذا لم تسد في أوساط مواطنيه الروح والمفاهيم الإسلامية الحقيقية، إلا إذا كنا نستبدل "اسلام المؤمن" بـ "اسلام الإعراب" هل يمكن أن يعالج تشريعٌ إسلاميٌ، وضع أناسٍ لا يحملون اعتقاداً به؟

    إذا كان الحديث النبوي يكفّر من غش، "من غشنا فليس منا"، فكم يخرج هذا الحديث من أبناء الأمة، من بين صفوفها؟ وإذا كان أكثر الناس يردّون من يأتيهم طلباً للزواج، طمعاً في حطام الدنيا الفاني؟ وإذا كانت مفاهيم التضامن والتكافل، لا تخرج عن إطار مجالات "الدعوات المتبادلة"؟ وإذا كان السهر على التفقّه في كتاب الله كريم وأحكامه، يعتبر من واجبات طلبة الشريعة؟ وإذا كان يسود الاعتقاد، بأن نزوع الفرد لأن يضحّي بمصلحته الفردية، في سبيل الأمة، ضرب من الانحراف؟ إذا كان كل هذا، وكثيرٌ مثله، سائداً، فهل يمكن معالجة أمور المجتمع البشري معالجةً نظاميةً، أياً كان النظام الذي يميل إليه الناس، في منطقة أو أخرى؟ إن شئناً، فالعقل يقول أن الاعتقاد لا يمكن إلا وأن يغير، من طبيعة حياة الفرد والمجتمع، وأن ما لا يغير، منهما ليس اعتقاداً.. وإن أبينا، فأمامنا تشكيلة كبيرة من الأنظمة، للمفاضلة بينها، لمن يريد أن يشيد صرحاً، لا أساس له.


     عودة للفهرس                                                                                                                                                                    قراءة الكتاب كاملاً

    تابعوني على الفيسبوك