الأصولية

     

    • الكتاب: "الأصولية المعاصرة أسبابها ومظاهرها.
    • المؤلف: روجيه غارودي.
    • المترجم: خليل أحمد خليل.
    • الناشر: دار عام الفين: باريس.
    • التاريخ: 1992.
    • الكتاب: "الأصولية بين الغرب والإسلام".
    • المؤلف: د. محمد عمارة.
    • الناشر: دار الشروق-القاهرة.
    • التاريخ: 1998.

    ظهرت تسمية "الأصولية"، واحتار العالم فيها، ذلك أنه في حيرةٍ، تجاه الظاهرة الدينية الحديثة، أصلاً وبين المدارس، يمكننا أن نلمس تجاذباً بين قطبين، يلخّصهما كتابان، هما المشار إليهما، يقدّمان منظورين متطرّفين ومتعارضين، لفهم هذه الظاهرة.

    يعرف غارودي الأصولية من خلال تبيان مكوناتها الأساسية الثلاثة: أولاً، الجمود، "رفض التكيف"، "جمود معارض لكل نمو، لكل تطور". ثانياً: العودة إلى الماضي، "الانتساب إلى التراث"، "المحافظة". ثالثاً: عدم التسامح،الانغلاق، "التحجر المذهبي"، "تصلّب"، "كفاح"، "عناد". (13) ضمن هذه الرؤية شديدة العمومية، يبدو في عيني غارودي، كل اتجاهٍ أصولياً: من فلسفة التنوير إلى "سان سيمون"، من "ستيوارت ميل" إلى "أوغست كونت"، من "نابليون" إلى "هتلر"، وكذلك استعمال أميركا لحق النقض، أو فرنسة الجزائر.

    وفيما يتعلق بالعالم الإسلامي، يعيد غارودي الظاهرة إلى تفوق الغرب وانحلاله. أنه يعيد الحركة الإسلامية الحديثة إلى حضارة الغرب، ويعالج إشكالات هذه الحركة من خلال مناقشته لسياسة فرنسا تجاه المهاجرين، ومطالب البنك الدولي من دول العالم الثالث.

    صحيح أن هناك دائماً علاقة بين البنية الداخلية لأي مجتمعٍ، وعلاقاته الخارجية، إلا أن هذا لا يعني إنكار المنبت الداخلي للظواهر التي يعيشها العالم الثالث، واعتبارها مجرد انعكاسٍ لعلاقاته الخارجية، مهما بلغت هذه العلاقات من القوة والتأثير. لقد قاده الحديث عن أميركا اللاتينية إلى تناول مسألةٍ جوهريةٍ بالنسبة للفهم الديني، ألا وهي موقف الفرد، حيث أعاد المؤلف الخلل هناك إلى العلاقة مع أميركا، مما اضطر أحد المفكرين المسيحيين للرد عليه، مبيناً أن هناك "تكاسل لدى البعض، وهجران للأرض، أو الإدمان على الكحول، والنفقات غير اللازمة والمبالغ فيها.." (43). ويبدو موقفه غير منطقي، بشكل أكثر وضوحاً عندما يتعرض للسياسة، فيعمد إلى تبريرها ورد كل الظواهر إليها في أمريكا اللاتينية، والهجوم عليها واعتبارها غير ذات علاقة، عند الحديث عن قارة أخرى.

    ويتعمق اللامنطق، عند دفاعه عن الأديان القديمة لأميركا اللاتينية أو افريقيا، وينسى أن الانتماء إلى تلك الأديان المغرقة في القدم، يشكّل في حد ذاته محافظةً وأصوليةً. إنه أيضاً ينسى، وبشكل كلياً، عالمية العقيدة، وأن عقيدتي المسيحية والإسلام، متقدمتان على تلك الديانات، وأن لهما دوراً عالمياً تمارسانه في تلك القارة.

    إنه أسير نسبيةٍ مطلقةٍ، مغرقةٍ في الرؤية الفردية، تلك النسبية التي استمدها من المفكر الفرنسي "جان بول سارتر"، وطرحها في كتابه "البديل"، ولم يزل وفياً لها حتى الآن. لقد أعلن حرباً شعواء على أي يقينٍ، أو تعميمٍ فكريٍ، بناء على نسبيةٍ، نسي ما أعلن انتماءه إليه في غمارها. لقد جعل من هذه النسبية يقيناً وعمّمه. جعل منها قاعدة مطلقةً يحاكم الجميع استناداً إليها. أنه لم يطبّق مفهومه النقدي على التعميم الفكري الذي يطلقه، ولو فعل لما كتب ما كتب.

    إنه أيضاً أسير الماركسية "السابقة"، فلا زال يميز ماركس عن مفكري التراث الإنساني العالمي، ويعتبر أن فكرة كان نقدياً، رغم معرفته التامة، بما دعا إليه هذا المفكر من اختزالٍ للحياة الاجتماعية-الحضارية ضمن رؤيةٍ اقتصاديةٍ محضةٍ. يقول غارودي: "المذهبية تقوم على وهم، أو على زعم الاستقرار في الكائن، وإعلان حقيقته المطلقة؟" ولنا أن نسأل هنا: "ألم يعلن ماركس استقراراً ويقيناً علمياً لفكره؟ ألم يفعل غارودي نفسه ذلك؟ أنه يريدنا أن نعتبر أفكارنا تأكيداً ظرفياً متناسباً مع معارفنا، ومع تجاربنا الآنية، وأن نحس لسعة نار الأصولية في أي يقينٍ أو ثقة بأفكارنا، فكيف يدعو في نفس الوقت، إلى عقيدةٍ كالإسلام، يستحيل تشييد مفاهيمها، على أساسٍ من التجريبية والنسبية الزمنية؟

    بدلاً من الغرق في متاهة أفكار اليمين الفرنسي، من أجل التوصل إلى مرجعية للأصولية، كان عليه البحث في روح منع الاجتهاد، وإدانة كل جديدٍ باعتباره بدعةً، تلك الظاهرة المتأصلة في تاريخ البشر، كل البشر، وليست ناشئةً عن تفوق أمةٍ على أخرى. ولو رجعنا إلى بداية الدعوة الإسلامية لوجدنا أن أول ردٍ عليها كان "هذا ما وجدنا عليه آباءنا..".

    ثمة فارقٌ أساسيٌ بين التمسك بالأصل، والعودة إليه بعيداً عن انحرافٍ وتشويهٍ، وبين التمسك الحرفي بالقديم، لمجرد قدمه. وهنا يتأكد دور "فقه التحرير" الذي يدعو إليه غارودي، في أن يقيم التمييز، وأن يبني الفارق. أن قدم الحقيقة لا ينفي صحتها، فلو اعتبر الغرب أفكار اليونانيين وحضارتهم أصولاً قديمةً، لما نشأت الديمقراطية الحديثة ومفاهيم حقوق الإنسان، والتي منها يشتق غارودي أفكاره. الإنسان ليس بحاجة إلى "موضة" "فكرية" تطرح في الأسواق كل عامٍ، حتى يبرهن على تجدده، وعدم أصوليته، وليست خصوصية كل بلدٍ بحاجة إلى "موضةٍ" فكريةٍ تخصها، حتى تثبت ذاتها وهويتها الوطنية، في دينٍ خاصٍ.

    من خلال مناقشته للمعطيات العصرية، يثير المؤلف أكثر من لبسٍ، وأكثر من تساؤل: فمن خلال حديثه عن الشركات متعددة الجنسيات، والقنبلة الذرية، يحاول أن يصل إلى أن القرآن دعوة دينية وأخلاقية، وليس قانوناً فقهياً (87) وبنفس الروح يجرد السنة من دورها وأهميتها (83).

    لابد من الإشارة إلى الصحة الجزئية لكثير من أطروحاته، لكننا أمام كوم من الأفكار والآراء والمفاهيم، غير المترابطة، والتي اختلط فيها الغث بالسمين. واتجه سياق هذا كله إلى الخوض في تفاصيل الحياة اليومية الغربية، بدل البحث الجاد المعمق، في المدارس الإسلامية المختلفة، وبدل كيل الاتهام للنازية قديمها وجديدها، كان الأحرى به أن يتوسع في تحليل جدل القديم والجديد، الماضي والمستقبل، السلف والخلف.. لقد جعل من كل شيء أصولية بحيث لم يعد القارئ يرى، بعد كتابه هذا، إلا أصولية تحيط بالعالم وتهدد بابتلاعه. إن تضخيم القضية، ورد كل الظواهر إليها، لا يؤدي إلا إلى محو حدودها، وبالتالي العجز أمامها.

    مقابل هذا الطرح، يوجه د. محمد عمارة نقده اللاذع لغارودي، لكن من خلال منظورٍ متطرفٍ هو الآخر.. منظورٌ ينكر أن ثمة أصوليةً في العالم الإسلامي، حيث يبدأ رده بالقول أن "المصطلح غربي.. ولأصله العربي، ومعانيه الإسلامية، مضامين ومفاهيم أخرى مغايرة.."(5). ولا داعي هنا، لشرحٍ مسهبٍ، من أجل توضيح أن الموضوع، ليس كلمة ذات استعمالاتٍ مختلفةٍ في كل لغة، بل في المعنى الدلالي المقصود، والمعرف في الكتاب، والذي هو واحدٌ وعامٌ وعالميٌ. بعد ذلك يصرف عمارة حديثه عن التسمية، لينتقل إلى الدلالة، فيؤكد أن ليس ثمة أصوليةً، بين تيارات الفكر الإسلامي المختلفة، القديم منها والحديث، فيقول: "إن حقيقة الجواب عن هذا السؤال هي النفي القاطع والأكيد (10).

    في نفس الوقت، فإن عمارة يركز على محاولة غارودي تبرئة ماركس، من معارضته للدين، وإلى "انحيازه إلى المفهوم الدنيوي الخالص للفقه والقانون، ذلك الذي جعله يجرد الشريعة الإلهية من الفقه والقانون بدعوى أنها شريعةٌ أخلاقيةٌ، وانحيازه إلى القول بتاريخيه وتاريخانية الأحكام القرآنية". (86-87)

    وينتهي عمارة إلى نقد مفهوم الحوار لدى غارودي مركزاً على أن الوحدانية تخص الخالق، والتعدد سنته في خلقه (72). وهنا تكمن مفارقتين هامتين: صحيح أن الله لم يخلق ما خلق دون إحكام مسبق، لكن هل يعني هذا أن التفرّق مطلوب، وأن انقسام البشر إلى أطراف مختلفةٍ، في حد ذاته غايةٌ؟" والثانية: أن عمارة يقع، دون أن ينتبه في الشرك، فغارودي لا يدعو إلى اندماجٍ منسجمٍ ومتناسقٍ، بل حوارٍ لا يقوم إلا إذا كان هناك ذلك التعدد، والقبول به لدرجة تكريسه، وبدون هذين الشرطين ليس ثمة حواريةٌ غارودية.

    من منطلقة الرافض، يتهم عمارة دعوة الحوار تلك، بالانحياز لتصورات لن تخدم الأقوى الهيمنة (87). أن فهم عمارة لـ "وسطية الإسلام"، الذي يعبّر عنه في التعددية المؤسسة على الخصوصيات (78)، لا يشكل الرد الحقيقي والصحيح على حوارية غارودي، التي تطالب الكل بأن يعيد النظر في معتقداته الخاصة به. إن إعادة النظر أمرٌ واجبٌ، إلا أنها يجب أن تتم من خلال السعي نحو الحقيقية، لا من خلال هدفية الاندماج بالآخر، بعد تكريس اختلافه. هذه الذات المندمجة، لاحظها عمارة بشكل واضح، وإن لم يتمكن من مساجلتها المساجلة المطلوبة. إن الحوار لابد منه، لكنه لن يتأتي عبر ذلك المنظور الاندماجي، بل عبر عمليةٍ تنويريةٍ تنحاز إلى الحق، وتسعى إلى اللقاء مع أي ذات أخرى على أرضه، بل إن الذات تعرّف نفسها من خلال هذا الحق، الذي يستحيل هويةً لها.

    خلاصة القول: إن الأصولية موجودة هنا وهناك، الآن وسابقاً، لكنها لا تنحصر ضمن توجهٍ فكريٍ محددٍ، بقدر ما تنشأ ضمن أي اتجاهٍ، بناءً على ما يريده حامل هذا الفكر، وما يفهمه من فكره، والمخرج لن يكون بتعميم هذه الظاهرة، كما لن يكون بإنكار وجودها، بل من خلال عمليةٍ تنويريةٍ، قادرةٍ على التفاعل الصحيح مع الآخرين، بما في ذلك الحوار مع كثير منهم. إن الوسط الإسلامي ليس "حلاً وسطاً" أو "ترضيةً" بين خصمين، بل هو انحياز كليٌ إلى الحق، الذي يعرفه الإسلام بالاعتدال.

    وعبر كتابه، وفي أكثر من موقع، يوجه عمارة إلى غارودي تهمة أنه يعتبر كل ما هو غير علماني عبارة عن "سرطانات أصولية"، وذلك من خلال تحليله لتعريف غارودي للأصولية، عبر قوله: "إنها التي تكون نقبض العلمانية" (41). العلمانية، هي الأخرى التي أضحت موضع صراعٍ، بين هذين المنظورين المتطرفين، فبشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، نجد غارودي يعتبرها نزعةً تنويريةً عقلانيةً، بل ومعياريةً، في حين يفرد لها عمارة موقعاً على خارطة الأصولية، لانتسابها إلى التراث اللاديني-والإغريقي منه خاصة" (23). ولو تأملنا وجهتي النظر هاتين، فإن ما تأتي به كل منها، يحوي قدراً لا بأس به من الحقيقة، فالعلمانية يمكنها أن تكون توجهاً إنسانياً عقلانياً تنويرياً، يلتقي مع الدين، ويمكنها أن تكون نزعةً أصوليةً-وضعيةً لأهم لها سوى ممارسة الحرب ضده. المسألة في هذه الحالة، كما في كثير غيرها، لا ترجع إلى معطيات الفكر، بل إلى ذات العارف. ماذا يقصد من خلال توجهه الفكري، أولاً؟ وماذا يفهم، هو نفسه منه ثانياً؟

    وأخيراً، وليس آخراً، لابد من الإشادة بالمجهود الذي بذله د. محمد عمارة، في سبيل تبيان أن من يتمسك بثوابت معتقدة الإسلامي، يجب أن يسمى إسلامياً لا أصولياً.. في سبيل كشف اللبس والوصول إلى الحق.. لكن الموضوع لن يستوفي حقه في كتابين.


     عودة للفهرس                                                                                                                                                                    قراءة الكتاب كاملاً

    تابعوني على الفيسبوك