انهارت المؤسسة الشرقية الكبرى، وانهارت معها الأحلام العظيمة بتصحيح خط المسيرة الديمقراطية العالمية، من خلال حلقةٍ اجتماعية، تكمّل الحلقة السياسية التي حققت هدفها المباشر، وقصّرت عن تحقيق حلم الإنسانية بمدينة فاضلة. هذا الانهيار يضع الشباب أمام فراغ فكريٍ تشكّله المؤسسة الرأسمالية التي فرضت سيادة عالمية، وخرجت من حربها الحضارية، تحمل أكاليل النصر والغار.. انتصرت المؤسسة المالية في حربها ضد أخطر مدرسة فكرية واجهتها، فأي أفق بقي أمام الشباب؟! ليس الشباب فقط، بل الجيل الذي وجد في الحرب ضد الرأسمالية ضالته المنشودة، وأمضي زهرة شبابه في هذه المعركة التي كان يعتبرها مصيرية، هذا الجيل وجد نفسه الآن يعود إلى نقطة البداية مجرداً من السلاح الفكري الذي حمله لمدة تربو على القرن.. عاد هذا الجيل الآن، إلى نقطة البدء ليسأل نقسه.." إلى أين؟!".
"أي طريق انتهج؟" عاد هذا السؤال ليطرح أمام العقل البشري التحدي الوجودي الأكبر، وخرج الأكاديميون ليبشروا ببنىً، أو مناهج فلسفيةً بديلةً، لكن الفراغ بقى فراغاً، لأن المسألة اعتقاديةٌ، وليست أكاديميةً، فالمناهج الجديدة، لم تُعِد طرح الحلم القديم بالمدينة الفاضلة من خلال رؤيةٍ جديدةٍ، بل اكتفت بمحاولة تقديم شرحٍ مغرق في الأكاديمية لمشكلة الحضارة، وفشلت من حيث بدأت، لأن الحضارة ما كانت أبداً مسألة "علميةً"، خارجةً عن معتقد الفرد والجماعة في الحلم بوضعٍ مثاليٍ، يشكّل هدفاً مستقبلياً، يلهم سلوك الفرد اليومي، ويجعل منه واجباً أخلاقياً ملزماً. لقد شهد التاريخ دولاً كبرى، قامت دون هذا الحلم. لكنها لا توصف حتى من قبل الأكاديميين بأنها دول متحضّرةٌ، ولم تترك على حقب التاريخ اللاحق بصمتها.. وإذا ما كانت الرأسمالية الآن، تشكّل وضعاً شبيهاً بهذا، فذلك لأن هذه المجتمعات فقدت حلمها، من خلال تحقيقه.. حيث كان الحلم بالديمقراطية السياسية من خلال نموذجٍ حضاريٍ معينٍ، هو الحلم الذي تحركت الأجيال لتحقيقه، فحققته فاتحة، الباب أمام سؤالين.. هل هذا المثال الذي كنا نحلم به؟ وأي درب ننتهج الآن؟ فكانت حلقة الصراع الاجتماعي الذي انحسر، تاركاً السؤالين يعودان من جديدٍ، وبشكل أقوى.
لن تكون هناك إجابةٌ سهلةٌ جاهزةٌ، فمثل هذا النمط من الأجوبة لا يشكّل أجوبةٌ.. إن المسألة في بعدها الأول، تكمن في الرجوع إلى نقطة البدء: لقد شهد التاريخ سيادة الأفق السياسي، على الأفق الفكري، وقد حقّق هذا السياسي منجزات لا شك بها، لكن هل تستطيع العربة أن تقود الحصان؟ إن الطاقة الدافعة لكل حضارةٍ، هي الحلم الإنساني الأصيل، وإذا ما فقد الإنسان ثقته بالحلم، وترك للتجربة المادية أن تقوده، وترسم له نهجه بعيداً عن أي حلمٍ، بل أن تقرر هذه التجربة، أي نموذج نحتذي، فهذا ما يجعل الوضع، كما لو كنا نضع العربة أمام الحصان.
الحلم هو الطاقة الدافعة، المحرك الذي يجعل الآلة تدور، الحصان الذي يقود العربة، من خلال حركته، ورؤيته للطريق.. وبدونه نجد أنفسنا أمام عربةٍ، لا فرق لديها بين درب سويٍ، وبين هاويةٍ قد تنحدر بنفسها إليها.. إنه المقياس المعياري لسوية الحضارة، أو انحرافها، وهو بالتالي صمام الأمان وأداة التوجيه.
على الأفق الفكري- الثقافي- الأخلاقي أن يرسم الحدود للسياسي، ويقّرر له أي نهج يتخذ، فإذا ما فشل السياسي، عاد بخبرة التجربة لينهل من معينه الثقافي، وليتعلم من جديد.. هذا هو الركن الذي ضيّعت فيه الحضارة ذاتها، ولن تجد ذاتها، إلا فيه. وهذا يقودنا إلى البعد الثاني للمسألة، ألا وهو البعد غير المباشر، والذي يشكل الخلفية العقلية للوضع الحضاري، والذي دفع بالسياسي ليتصدر واجهة الموقف: إنه يكمن في العلاقة بين العقل والتجربة. ففي مواجهة عصرٍ، أغفل فيه الإنسان دور العقل، مكتفياً بطرح مسلماتٍ لا تقبل النقاش، سيطر المنهج العلمي التجريبي من خلال دوره الريادي طارحاً نفسه كمنقذٍ للبشرية وحضارتها، خالقاً النهوض الصناعي والمجتمع الذي أفرزه، وما تشابك ضمن هذا المجتمع من تشكيلاتٍ. لكن ليس بمقدور التجربة، أن تحل معضلة الوجود، وتعبّئ الفرد بمفاهيم المثال والواجب. فوجد الفرد نفسه أسير علاقاتٍ ماديةٍ ماليةٍ، وضحيّة غياب أيّة هدفيةٍ، تعطي معنىً لحياته.
عملاق الإمكانيات هذا، يشبه إنساناً تضخمت يداه وساقاه، وضمر عقله أنه يستطيع الوصول إلى أي شيءٍ، لكنه لا يعرف ماذا يفعل به. هذه هي حضارة العالم الآن. ولن يخرجها من مأزقها، سوى العودة إلى العقل النقدي، ليقوم من جديدٍ مستفيداً من دروس التجربة برسم صورة الحلم الإنساني، ويقود الآلة الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية، بدل أن تقوده هي. هذا هو الأساس الذي تشاد عليه الحضارات.